الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله ومن والاه.
أما بعد:
فلقد تعهد الله تعالى بحفظ كتابه الخاتم، وذلك تحقيقًا لوعده القائل فيه سبحانه: ﴿إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ﴾ [الحجر: 9].
إن المتأمل في شأن تنزّل القرآن الكريم يجد بجلاء أن الله تعالى قد تكفَّل بحفظه في كل أطوار تنزله بذاته العلية -سبحانه-، والشواهد على ذلك من كتاب الله كثيرة منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
- قوله سبحانه في عموم حفظه: ﴿إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ﴾ [الحجر: 9]، أي من أن يُزاد فيه أو يُنقص، وهذا قول عموم أئمة التفسير، ولا يُعلم له مخالف.
- ومن ذلك أيضًا قوله سبحانه: ﴿لَّا يَأۡتِيهِ ٱلۡبَٰطِلُ مِنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَلَا مِنۡ خَلۡفِهِۦۖ تَنزِيلٞ مِّنۡ حَكِيمٍ حَمِيدٖ﴾ [فصلت: 42]، والباطل: إبليس، لا يستطيع أن ينقص منه حقًا، ولا يزيد فيه باطلًا([1]).
- ومن ذلك أيضًا قوله سبحانه: ﴿وَٱتۡلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَۖ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِۦ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِۦ مُلۡتَحَدٗا﴾ [الكهف: 27]، وقوله: ﴿لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِۦ﴾ أي: لا مغير لها، ولا محرِّف، ولا مؤوّل([2])، والشواهد العامة على ذلك في كتاب الله تعالى أكثر من أن تُحصى.
والقرآن قد حفظه الله تعالى في كل أطوار تنزله، فأثبته الله تعالى وحفظه في اللوح المحفوظ في السماء قبل نزوله، وحفظه في طريق نزوله إلى الأرض، وحفظه بعد نزوله كذلك إلى الأرض على رسوله ﷺ، وسيبقى كذلك إلى أن يُرْفَعَ في آخر الزمان.
أولًا: حفظ القرآن الكريم في السماء:
والقرآن الكريم قبل نزوله محفوظ في اللوح المحفوظ في السماء كما قال ربنا: ﴿بَلۡ هُوَ قُرۡءَانٞ مَّجِيدٞ٢١ فِي لَوۡحٖ مَّحۡفُوظِۢ٢٢﴾ [البروج: 21، 22]، فهو في اللوح المحفوظ، مصون مستور عن الأعين، لا يطلع عليه إلاّ الملائكة المقربون، ولا يمسه في السماء إلاّ الملائكة الأطهار، ولا يصل إليه شيطان، ولا يُنال منه([3]).
وقد جعله الله تعالى كتابًا معظمًا في كتاب معظم محفوظ موقر([4])، وقد أقسم الله تعالى على ذلك في كتابه فقال سبحانه: ﴿فَلَآ أُقۡسِمُ بِمَوَٰقِعِ ٱلنُّجُومِ٧٥ وَإِنَّهُۥ لَقَسَمٞ لَّوۡ تَعۡلَمُونَ عَظِيمٌ٧٦ إِنَّهُۥ لَقُرۡءَانٞ كَرِيمٞ٧٧ فِي كِتَٰبٖ مَّكۡنُونٖ٧٨ لَّا يَمَسُّهُۥٓ إِلَّا ٱلۡمُطَهَّرُونَ٧٩ تَنزِيلٞ مِّن رَّبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ٨٠﴾ [الواقعة: 75-80].
ثانيًا: حفظ القرآن الكريم في طريق نزوله إلى الأرض:
فالذي نزل به ملك منزَّه مطهَّر أمين على وحي الله، كما قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُۥ لَتَنزِيلُ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ١٩٢ نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلۡأَمِينُ١٩٣ عَلَىٰ قَلۡبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلۡمُنذِرِينَ١٩٤ بِلِسَانٍ عَرَبِيّٖ مُّبِينٖ١٩٥﴾ [الشعراء: 193-195]، فلا يستطيع شيطان الاقتراب من السماء لاستراق السمع طمعًا في الاطلاع على أخبار السماء وقت نزوله كما قال ربنا: ﴿وَحِفۡظٗا مِّن كُلِّ شَيۡطَٰنٖ مَّارِدٖ٧ لَّا يَسَّمَّعُونَ إِلَى ٱلۡمَلَإِ ٱلۡأَعۡلَىٰ وَيُقۡذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٖ٨ دُحُورٗاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٞ وَاصِبٌ٩ إِلَّا مَنۡ خَطِفَ ٱلۡخَطۡفَةَ فَأَتۡبَعَهُۥ شِهَابٞ ثَاقِبٞ١٠﴾ [الصافات: 7-10]، والشياطين لـمَّا حاولوا ذلك ما استطاعوا لأن السماء قد حفظت بحراسة مشددة من الملائكة وبالشهب الحارقة، وقد وصف الله تعالى محاولة فئة من الجنِّ ذلك في سورة “الجنِّ” في قوله سبحانه: ﴿وَأَنَّا لَمَسۡنَا ٱلسَّمَآءَ فَوَجَدۡنَٰهَا مُلِئَتۡ حَرَسٗا شَدِيدٗا وَشُهُبٗا٨ وَأَنَّا كُنَّا نَقۡعُدُ مِنۡهَا مَقَٰعِدَ لِلسَّمۡعِۖ فَمَن يَسۡتَمِعِ ٱلۡأٓنَ يَجِدۡ لَهُۥ شِهَابٗا رَّصَدٗا٩ وَأَنَّا لَا نَدۡرِيٓ أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ أَمۡ أَرَادَ بِهِمۡ رَبُّهُمۡ رَشَدٗا١٠﴾ [الجن: 8-10]، و(شُهُبًا) جمعها شهاب، والشِّهَابُ هي النجوم التي تُرجم بها شياطين الجنِّ.